الأيدي الثقيلة والقلوب المُثقلة: مخاطر التدخل العسكري في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا

مع تراجع النفوذ الأمريكي في شتى أنحاء الشرق الأوسط وشمال أفريقيا على مدار السنوات الأخيرة، حاولت عدّة أطراف إقليمية أن تملأ هذه الفجوة، فزادت من تواجدها العسكري في المنطقة. عاودت روسيا الظهور كلاعب عسكري هام في المنطقة، في حين عززت تركيا ليس وجودها العسكري فحسب، وإنما أيضاً من حضورها الثقافي والاقتصادي. وفي الوقت نفسه، يستمر التنافس ما بين السعودية وإيران على النفوذ الإقليمي. وفي خضم هذه القوى المتنافسة، درس الباروميتر العربي كيف كان ينظر المواطن العادي إلى هذه الدول في أواخر عام 2020. تُظهر الأدلة أن اليد العسكرية الثقيلة للقوى الإقليمية عادة ما تكون لها تداعيات قوية على الانطباعات الشعبية في الدول التي تشهد التدخلات وفي الجوار المباشر.

من بين هذه القوى الأربع، يُعد الدعم الشعبي في المنطقة لتركيا هو الأعلى مقارنة بالأطراف الأخرى، حيث تبين أن أغلب المواطنين لديهم آراء إيجابية تجاه تركيا في أربع من الدول الست المشمولة بالاستطلاع. يبلغ الدعم أعلى مستوياته في المغرب (65 بالمئة) ثم الأردن والجزائر (56 بالمئة في الدولتين) وتونس (52 بالمئة). لكن الدعم لتركيا ليس معمم، ففي لبنان، حيث ترتبط الآراء بالطائفة الدينية، تبين أن 45 بالمئة من السنة يفضلون تركيا، مقارنة بـ 35 بالمئة من المسيحيين، و11 بالمئة فقط من الشيعة و7 بالمئة فحسب من الدروز. وفي الوقت نفسه، فإن من يقيمون في شرق ليبيا، وتخضع مناطقهم لسيطرة الجيش الوطني الليبي، يعتبرون أقل تفضيلاً لتركيا مقارنة بمن يقيمون بمناطق أخرى من البلاد، وهو الأمر الذي يمكن تفسيره على ضوء تدخل تركيا ضد قوات الجيش الوطني الليبي. وعلى وجه أكثر تحديداً، فإن 41 بالمئة من الليبيين بمحافظة طرابلس يحملون آراء إيجابية تجاه تركيا، مقارنة بـ 17 بالمئة ممن يعيشون في محافظة بنغازي.

أما روسيا – التي تدخلت عسكرياً بدورها في ليبيا – فهي أقل تفضيلاً من تركيا. في الجزائر فقط يحمل أكثر من النصف على الأقل (52 بالمئة) آراء محبذة لروسيا. هناك دعم معتدل لروسيا في تونس (44 بالمئة) والمغرب (43 بالمئة)، في حين أن الثلث تقريباً (36 بالمئة) لديهم آراء إيجابية في لبنان. وأخيراً، فإن الدعم لروسيا يبلغ مستوى متدنٍ نسبياً في ليبيا (26 بالمئة) وهو في أدنى معدلاته في الأردن (15 بالمئة). وفي لبنان، يعتبر الشيعة (60 بالمئة) هم الأكثر تفضيلاً لروسيا مقارنة بالسنة (3 بالمئة)، في حين أن 48 بالمئة من المسيحيين و37 بالمئة من الدروز يحملون آراء إيجابية تجاهها. هذه الاختلافات الكبيرة يُرجح أنها نتيجة للدعم الروسي العسكري لنظام الأسد في سوريا. لكن في ليبيا، لا تتبع التباينات في الآراء إزاء روسيا نفس درجة التقسيم بحسب المنطقة. فمن يعيشون في طرابلس (36 بالمئة) يفضلون روسيا بنفس درجة محافظة بنغازي (32 بالمئة). تُظهر هذه النتائج أن التدخل العسكري الروسي في ليبيا كان له أثر سيئ نسبياً على صورة روسيا في نظر من يعيشون في المحافظتين المتنافستين الأساسيتين في ليبيا. ويرجح أن يكون ضعف مستوى الدعم لروسيا في الأردن عاكساً للرأي العام الأردني تجاه التدخل العسكري الروسي في سوريا.وفي سياق التنافس بين قوى الخليج، تُعد السعودية هي الأكثر تفضيلاً في نظر المواطنين مقارنة بإيران. لكن من بين خمس دول طرح فيها ذلك السؤال، حاز المغرب فقط (53 بالمئة) على أغلبية لديها رأي إيجابي في السعودية. وفي الوقت نفسه، فإن الدعم يبلغ مستوى أدنى في الجزائر (47 بالمئة) وتونس (36 بالمئة) وهو متدنٍ نسبياً في الأردن (28 بالمئة) ولبنان (25 بالمئة). وفي لبنان فإن المسيحيين والسنة أكثر تفضيلاً بكثير للسعودية (40 بالمئة و34 بالمئة على التوالي) مقارنة بالدروز والشيعة (3 بالمئة و2 بالمئة على التوالي). لكن يجدر بالملاحظة بالنسبة إلى لبنان أن ثلث السنة فقط – وهي نسبة أقل مقارنة بالمسيحيين – يحملون آراء إيجابية تجاه السعودية. ربما كان السبب وراء دعم أٌقليات من المواطنين للسعودية في كل الدول عدا المغرب هو تدخلها العسكري والسياسي في اليمن ومناطق أخرى.

بالمقارنة، فإن دعم إيران يبلغ مستوى منخفض في جميع الدول المشمولة بالاستطلاع، حيث المغاربة هم الأكثر تفضيلاً لإيران بواقع 35 بالمئة. وفي الدول الأخرى، يحمل ربع المواطنين أو أقل آراء إيجابية نحو إيران، بما يشمل 10 بالمئة فقط في الأردن. وفي لبنان هناك فرز طائفي صريح لمستويات الدعم، حيث الشيعة هم الأكثر تفضيلاً لإيران مقارنة بالطوائف الأخرى. إجمالاً، لدى 65 بالمئة من الشيعة في لبنان آراء إيجابية نحو إيران، مقارنة بـ 10 بالمئة فقط من المسيحيين و5 بالمئة من الدروز و4 بالمئة من السنة. هذا الدعم المتدني بدوره قد يُعزى ليس فقط إلى التوترات الطائفية عبر المنطقة، إنما أيضاً يعكس رفضاً عاماً للتدخلات العسكرية والسياسية الإيرانية في لبنان وسوريا واليمن ودول أخرى.في المجمل، ترسم هذه النتائج صورة مختلطة للقوى الإقليمية. فالدعم يبلغ أعلى مستوياته لتركيا عبر المنطقة، لكنه أقل عموماً في الدول المتأثرة بالتدخلات العسكرية التركية، بشكل مباشر أو غير مباشر. الأمر نفسه ينسحب على روسيا، إذ أن من يعيشون في لبنان وليبيا والأردن يدعمون الدور الإقليمي الروسي بنسبٍ أدنى. ويظهر المثل في الحالة السعودية، فقبل 2016، وجدت استطلاعات الباروميتر العربي أن السعودية تتمتع بنسب دعم أعلى في المنطقة. لكن تدخلها العسكري في اليمن وتدخلاتها السياسية في الدول الأخرى ربما كانت باهظة التكلفة في عين الرأي العام العربي، وهو ما قد يفسر جزئياً التراجع في دعم الرأي العام للمملكة على مدار السنوات الأخيرة. وأخيراً، فإن مستويات دعم إيران المنخفضة تعكس تباهي مسؤولي نظامها بالسيطرة على أربع عواصم عربية. تُظهر هذه النتائج أن التدخل العسكري من القوى الخارجية له تداعيات قوية في المعركة المعنوية لاستمالة قلوب وعقول شعوب المنطقة