المواقف السياسية للتونسيين بين الانقسام والالتباس

حالة العزوف عن المسار السياسي في تونس تجلت بشكل كبير‎ خلال الانتخابات التشريعية السنة الماضية ولكن من السابق لأوانه التنبؤ بما قد تعنيه اتجاهات الرأي العام التونسي بالنسبة إلى الانتخابات الرئاسية القادمة.

تستعد حوالي خمسين دولة هذا العام لتنظيم انتخابات سوف تشكل بكل تأكيد امتحانا للديمقراطية على مستوى العالم.

وتظهر عديد الاستطلاعات ومن بينها الاستطلاع الأخير لمؤسسة “بيو” الأميركية أن فكرة الديمقراطية مازالت جذابة في كل مكان ولكن الشكوك تزايدت لدى الكثيرين حول نزاهة الساسة ونجاعة عمل الحكومات حتى لما تكون منتخبة ديمقراطيا.

تبدو الفكرة الديمقراطية بعيدة المنال في المنطقة العربية بعد 12 عاما من موجة الاحتجاجات الشعبية في ما سمّي آنذاك بـ”الربيع العربي” الذي انطلقت أحداثه في تونس حيث كان ولا يزال موضوع الديمقراطية تحت المجهر الإقليمي والدولي.

في هذا النطاق أظهر استطلاع نشر نتائجه مؤخرا “البارومتر العربي” أن هناك دروسا استخلصها التونسيون من تجربة “الانتقال الديمقراطي” التي مروا بها بعد سنة 2011 يمكن أن تقدم إضاءات بعيدة عن التصورات التي كانت لسنين طويلة رائجة في الغرب حيث كثيرا ما أدّت النماذج الفكرية المسقطة إلى خيبة أمل شديدة.

يتضح من هذا الاستطلاع أن آراء التونسيين منقسمة انقساما كبيرا حول الديمقراطية فكرا وممارسة، آراء يكتنفها الكثير من اللبس وحتى التناقض حول ما يعنيه الخيار الديمقراطي في الحاضر والمستقبل.

تظهر الأرقام أن القناعات الديمقراطية وإن كانت لم تترسخ تماما فهي لم تتزعزع بشكل كبير. فالتونسيون بأغلبية ثمانية من كل عشرة أشخاص يرون أن الديمقراطية تظل رغم إشكالياتها نظام الحكم الأفضل بالنسبة إليهم كما يرفض 55 في المئة منهم الأنظمة السلطوية من منطلق مبدئي.

لكن ذلك لا يخفي الاحترازات الكثيرة التي يشترك فيها معظم التونسيين حول نتائج الحكم الديمقراطي، إذ يعتقد 73 في المئة منهم أن أنظمة الحكم الديمقراطية تؤدي إلى أوضاع اقتصادية “ضعيفة”، بما يشكل ارتفاعا كبيرا بالمقارنة مع نسبة 17 في المئة فقط من التونسيين كانوا يوافقون على هذا الرأي سنة 2011، التي شهدت سقوط نظام زين العابدين بن علي.

وترى نسبة 73 في المئة أن الديمقراطية ترادف “التردد” في اتخاذ القرارات وهي نسبة تشكل زيادة واضحة بالمقارنة مع نسبة 19 في المئة من التونسيين الذين كانوا يرون ذلك قبل أكثر من عقد مضى.

ويبدو بشكل واضح أن هذه الشكوك الكبيرة بخصوص الممارسة الديمقراطية لدى التونسيين هي انعكاس مباشر لما خبروه لدى نخبهم الحاكمة بعد 2011 من صراعات حول السلطة رافقها فشل للسياسات الاقتصادية والاجتماعية بما أدى إلى حالة من عدم الاستقرار وتدهور لمستوى المعيشة.

ويظهر الاستطلاع أن التونسيين بمقدار ما يريدون من أيّ ممارسة ديمقراطية أن تضمن لهم الاختيار الحر لمن يحكمهم فإنهم يرغبون منها أن توفر لهم الخدمات الأساسية التي يحتاجونها وكذلك مقومات الكرامة والمساواة أمام القانون.

يبدو من ذلك أن أغلبية التونسيين يبتغون من الديمقراطية تأسيس نظام حكم يضمن حقوقهم السياسية ولكن أيضا حاجياتهم الاقتصادية والاجتماعية.

ومن هذا المنطلق يمكن أن نفهم طريقة تقييم التونسيين لمدى تقدم المسار الديمقراطي في بلادهم قبل حكم بن علي وبعده، حسب نتائج “البارومتر العربي”.

يرى 54 في المئة من الأشخاص المستجوبين أن تونس أصبحت أكثر ديمقراطية منذ سنة 2011، ولكن البقية يرون أن تونس حافظت على نفس المستوى أو هي تراجعت على مستوى الممارسة الديمقراطية بالمقارنة مع فترة حكم بن علي.

في نفس الإطار يتنزل اختيار أغلبية التونسيين للبلدان التي يرونها تمثل أفضل نماذج للحكم الديمقراطي. تتصدر قائمة الدول الديمقراطية في العالم حسب الأشخاص المستجوبين في الاستطلاع ألمانيا والصين وليس بلدان أخرى مثل الولايات المتحدة أو بريطانيا. وهذا اختيار لافت ولكنه مفهوم إذا ما اعتبرنا تعريف التونسيين للديمقراطية.

ومن الأرجح أن يبقى هذا المنظور عاملا محددا لنظرة التونسيين لأيّ مسار ديمقراطي خلال السنوات القادمة.

بهذا الخصوص، يقول “البارومتر العربي” إنه “لا يبدو أن التونسيين يجتمعون حول رؤية مشتركة بخصوص مستقبلهم السياسي”. بل إن الأرقام تذهب إلى أبعد من ذلك. فهي تظهر تشرذم المواقف والتباسها إلى حد بعيد في ما يتعلق بالخصوص باختيارهم لنظام الحكم الذي يلائمهم أكثر من غيره.

يرى ما لا يقل عن 51 في المئة من الأشخاص المستجوبين، ولو بدرجات متفاوتة، أن النظام البرلماني التعددي “لا يلائم” بلادهم، بعكس 48 في المئة من المستجوبين الذين يرون هذا النظام “ملائما”. ومن المفارقات أن هذا الرقم قريب جدا من نسبة التونسيين الذين يفضلون أن تتولى الحكم “سلطة قوية” تتخذ قراراتها دون اعتبار لنتائج الانتخابات أو رأي المعارضة.

هناك تساؤلات مختلفة من الناحيتين المنهجية والسياسية يطرحها جانب آخر من الاستطلاع يتعلق بالموقف من فرض نظام حكم مبنيّ على “تطبيق الشريعة”. وتقول الأرقام إن ثلثي الأشخاص المستجوبين يرفضون مثل هذا النظام. لكنه من المثير للتساؤل إن لم يكن للانشغال أن يساند 37 في المئة من الأشخاص ولو بدرجات مختلفة إقامة مثل هذا النظام.

ومن المحتمل جدا أن مفهوم “الشريعة” لا يعني بالنسبة إلى الأغلبية التعريف المرتبط بالتنظيمات السلفية والجهادية المتشددة بقدر ما هو يعني أركان الدين الإسلامي لا أكثر ولا أقل. ومن ناحية أخرى، ليس هناك بالضرورة انعكاس مباشر لرسوخ البعد الديني في المجتمع على الاختيارات السياسية للتونسيين. وقد تجلى ذلك على سبيل المثال من خلال تراجع المنسوب الانتخابي لحركة النهضة في تونس منذ 2011 رغم أن أهمية العامل الديني في البلاد لم تتغير.

الاستنتاجان المثيران فعلا للانشغال (من خلال نتائج الاستطلاع) هما أولا ما تعنيه حالة الانقسام والتشرذم العميقة في المواقف بين التونسيين بشكل قد يشكّل صعوبة في بناء إجماع حول أيّ قضايا أساسية يمكن أن تطرح نفسها مستقبلا في البلاد.

وقد تكون الأزمة الاقتصادية وما قد تفرضه من إجراءات تقشفية إضافية خير مثال على ذلك، إضافة إلى أيّ امتحانات أخرى قد تواجه النخبة السياسية مستقبلا سواء كانت في السلطة أو المعارضة.

المصدر الثاني للانشغال من الاستطلاع هو حالة العزوف العامة عن الشأن السياسي. يشير الاستطلاع إلى أن 24 في المئة فقط من التونسيين مهتمون بالشأن العام. وتنزل هذه النسبة إلى مستويات أكثر تدنيا لدى المرأة والشباب. إضافة إلى ذلك تتميز رؤية الأغلبية بانعدام الثقة في كافة المؤسسات السياسية ما عدا رئاسة الجمهورية التي تحافظ على مستوى ثقة يتجاوز 70 في المئة رغم عدم الرضا على مستوى الخدمات المسداة من قبل مؤسسات الدولة.

ومن غير الواضح كيف ستنعكس هذه الملامح التي يصورها الاستطلاع على السلوكيات الانتخابية والسياسية للتونسيين خلال الفترة القادمة.

فحالة العزوف عن المسار السياسي تجلت بشكل كبير‎ خلال الانتخابات التشريعية السنة الماضية ولكنه من السابق لأوانه التنبؤ بما قد تعنيه اتجاهات الرأي العام التونسي بالنسبة إلى الانتخابات الرئاسية القادمة.

هذا المقال نشر في الأصل على موقع العرب.

أسامة رمضاني هو وزير إعلام تونسي سابق ورئيس تحرير” العرب ويكلي”. الآراء الواردة في هذه المساهمة تعكس وجهة نظر الكاتب.

المقال الأصلي على موقع العرب