العالم العربي يخوض سجالات المفاتن والذكورة رغماً عنه

كمٌّ مذهل من المؤلفات الغربية والشرقية عن المرأة العربية. مؤلفات تاريخية، وأخرى اجتماعية، وثالثة سياسية، ورابعة نفسية إلى آخر قائمة التخصصات العلمية والأدبية التي تدور حول المرأة أو التي تتخذ منها مجالاً للبحث والتحليل. كمٌّ مذهل أيضاً من المؤلفات العربية عنها، لكن الكم يبقى مذهلاً في تخصصاته الضيقة، حيث المرأة في الدين، والمرأة في الشرع، والمرأة في الأحكام الدينية، والمرأة في الفقه، مع هامش هزيل من المؤلفات والدراسات عن الأعمال الأدبية لنساء العرب.

مواجهة قسرية

وفي العقد الذي تلى ما يسمى “رياح التغيير” وفي أقوال أخرى “الربيع العربي”، وجدت المنطقة العربية نفسها في مواجهة قسرية صريحة اضطرارية كاشفة فاحصة مع وضع “تاء التأنيث” العربية. فالمجتمعات التي تعصف بها رياح تغيير – بإرادتها أو رغماً عنها- لا يسعها حجب التغيير عن فئات، أو فرض استثناءات.

الاستثناءات الحقيقية عربياً في ما يختص بالمرأة هي هؤلاء الوزيرات والمديرات والكاتبات المفوّهات اللاتي حظين بدعم مباشر من الدول ومؤسساتها، أو القادرات على الثورة على ما فرضه المجتمع عليهنّ على مدار قرون من قيود، تارة باسم العادات والتقاليد وأخرى تحت مسمى الخصوصية، وثالثة بحكم الثقافة، وأخيراً وليس آخراً باسم الدين والمتدينين.

ضلعت تفسيرات دينية مختلفة في المجتمعات العربية على مدار نحو نصف قرن دفعت بالكثير من النساء والفتيات العربيات نحو خانة يصفها البعض بـ”الدونية” ويراها فريق آخر “رجعية” ويتشبث بها آخرون باعتبارها “تكريماً للمرأة وصوناً لعفتها وكرامتها”.

كرامة المرأة ومكانتها المعرضتان للشد والجذب هذه الآونة بأشكال مختلفة وفي سياقات متعددة تمرّان بمرحلة تاريخية عربياً لن ينجم عنها إلا إنقاذ وترسيخ أو إفشال وتحقير، وذلك بحسب ما يصدر من المجتمعات العربية من قرارات.

فتيات “تيك توك”

القرارات الصادرة عن النيابة العامة في مصر مثلاً خلال الأشهر القليلة الماضية شملت عدداً لا بأس به خاصاً بـ”فتيات تيك توك”، وهي العبارة التي صارت المجتمعات العربية تطلقها على فتيات يستخدمن تطبيق “تيك توك” بشكل مكثف. حالة من الغضب المجتمعي تدعمها توجهات من جهات مختصة بإنفاذ القانون في الدولة، وتساندها مرجعيات دينية، وتوفر البيئة المواتية لها، هوى شعبياً يبارك معاداة التربص بتاء التأنيث وتَرَصّد أفعالهنّ لتقويمهنّ وتهذيبهنّ خوفاً على المجتمع من شرورهنّ وجرائمهنّ.

الحدود العنكبوتية الرابعة

“الاعتداء على مبادئ وقيم أسرية في المجتمع المصري” و”التحريض على الفسق والفجور” و”نشر صور ومقاطع خادشة للحياء العام” و”التصدي لظواهر من ورائها قوى للشر تسعى لإفساد مجتمعنا” وعبارات كثيرة باتت النيابة العامة تضمّنها في بيانات تصدرها عقب كل ضبط لفتاة “تيك توك” في الأشهر القليلة الماضية. لكن يظل البيان الصادر عن النيابة العامة في قضية الطالبة حنين حسام (إحدى فتيات تيك توك اللاتي يلقى القبض عليهنّ لحماية المجتمع) هو الأشهر والأكثر أثراً. فقد جاء في البيان الذي حرصت النيابة العامة على نشره كذلك بعد ترجمته إلى الإنجليزية أنه “تأكد أنه استُحدث لبلادنا حدود رابعة خلاف البرية والجوية والبحرية تؤدي بنا حتماً إلى تغييرات جذرية في سياسة التشريع والضبطيات الإدارية والقضائية”. وعلى الرغم من تأكيد النيابة العامة في بيانها أن الحراسة المطلوبة للحدود الرابعة (مواقع التواصل الاجتماعي) ليست دعوة لتتبع الناس أو حرماتهم الخاصة، ولا تطاولاً على الحريات أو تقييداً لها، ولا دعوة إلى الرجعية ورفض التطور، إلا أنها “أهابت بمستخدمي تلك المواقع (التواصل الاجتماعي) من الشباب والبالغين أن يسهموا بدورهم الفاعل في معاونة أجهزة الضبطية القضائية والإدارية لحراسة تلك الحدود المستحدثة، لا سيما أن كثرتها العددية لا تجعل حصر الضار منها وما فيه من شرور أمراً سهلاً. وذيّلت النيابة العامة بيانها بطرح سؤالين الغرض منهما التأكيد والتحذير والتنبيه. “فهل يروّج للفسق إلا في دعوات للترفيه والتسلية؟ وهل يوقع بالفتيات في فخاخ ممارسة الدعارة إلا باستغلال ضعفهنّ وضائقاتهنّ الاجتماعية؟”

فخاخ الدعارة

ضعف الفتيات والنساء وضائقاتهنّ التي توقعهنّ بالضرورة في فخاخ الدعارة (بحسب فكر سائد)، ومعها هوى شعبي يعود بالمعايير الاجتماعية ومفاهيم المساواة بين الجنسين بسرعة شديدة إلى الوراء، وبدعم من تيارات دينية منتعشة، إن لم يكن سياسياً فمجتمعياً، توصف بالتشدد، والأصولية حيناً وبالرجعية حيناً آخر، والتمسك بالثوابت أحياناً وبمعاداة، وتكريم المرأة عبر حجبها وفصلها وحبسها في أدوار الإشباع الجنسي والإنجاب والخدمة المنزلية وتربية الصغار دائماً تقف على جبهة عربية موحدة. وعلى الجبهة العربية أيضاً المقابلة عوامل أخرى لا تقل عنها تشعباً للأطراف وتنوعاً في الأفكار، لكنها ترى أن تاء التأنيث في مواجهة مكتومة من جمع المذكر السالم.

جمع المذكر السالم يحتل قمة الترند هذه الأيام بفعل أحمد بسام ذكي الشاب الذي غزا بيوت المصريين، إن لم يكن اغتصاباً أو تحرشاً، فاهتماماً وهجوماً أو دفاعاً. وعلى غرار حملة “مي تو” التي شجعت فتيات ونساء على المجاهرة بما تعرضن له من تحرش واعتداء، جاهرت فتاة مصرية بما تعرضت له من قبل الطالب الجامعي المتنقل من جامعة لأخرى بسلسلة من الفضائح المتصل جميعها بالتحرش بدرجاته أحمد بسام ذكي. وعلى مدار الأسبوع الماضي، لا يمر يوم من دون أن تغزو مواقع التواصل الاجتماعي مجموعة من الفتيات يجاهرن بما تعرضن له من تهديدات وابتزازات وتحرشات جميعها ذات طابع جنسي.

العجيب والغريب والمريب أن المجتمع نفسه بفئاته الحاكمة والمحكومة والمستحكمة بتمسكها بالعادات والتقاليد والتعاليم الدينية والتي تخشى على نفسها من خدش الحياء الناجم عن فيديوهات “فتيات تيك توك” لم يجد أغلبه في ما اقترفه ذكي سبباً لـ”التشهير” به، أو مدعاة لنعته بـ”المتحرش”، أو مبرراً للتغاضي عن المخطئ الأصلي والأكبر ألا وهو الفتيات المنفلتات اللاتي صادقنه.

خدش حياء المجتمع

من جهة أخرى، فإن النيابة العامة التي دأبت خلال الأشهر القليلة الماضية على التحرك بسرعة كبيرة لمجرد أنه تنامى إلى مسامعها شكاوى مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي من “فتاة تيك توك” هنا تخدش حياءهم أو “فتاة تيك توك” هناك قد تعرض المجتمع لخطر الانهيار الأخلاقي توخت الحذر الشديد وانتهجت التأني العميق في شأن ذكي. وبعد أيام من اشتعال مواقع التواصل الاجتماعي بهاشتاغات “المتحرش أحمد بسام ذكي” ومجاهرات من مشارق البلاد ومغاربها بما ينسب إليه اقترافه من تحرش واغتصاب، قالت النيابة العامة إن وحدة الرصد والتحليل في مكتب النائب العام تابعت ما يتم تداوله، وإنها (الوحدة) تتخذ إجراءاتها بالفحص والرصد والتحليل تمهيداً لعرض الأمر على النائب العام لاتخاذ ما يلزم قانوناً. ولفتت النيابة العامة إلى عدم تلقيها أية شكاوى رسمية أو بلاغات ضد ذكي سوى شكوى واحدة فقط عبر الرابط الإلكتروني الرسمي. وأهابت النيابة العامة بوسائل الإعلام ورواد مواقع التواصل الاجتماعي توخي الحذر والحرص في ما يجري تداوله من أخبار عن النيابة العامة وأعمالها والالتزام بما يرد في بياناتها الرسمية فقط، مشيرة إلى اتخاذها الإجراءات القانونية ضد ناشري ومروّجي الإشاعات والأخبار الكاذبة التي من شأنها تكدير الأمن والسلم العام.

جدير بالإشارة إلى أن عدداً من المنظمات الحقوقية أصدر بياناً يستنكر فيه ما سمّاه “الحملة الأمنية المتواصلة التي تقودها النيابة العامة بحق المدونين على منصة التواصل الاجتماعي (تيك توك) بزعم حماية قيم الأسرة المصرية”، مع تجاهل آلاف البلاغات الأخرى في قضايا شتى. وطالبت المنظمات في بيانها النيابة العامة بـ”التوقف عن رقابة الحسابات الإلكترونية الشخصية والزج بأصحابها في السجون باتهامات فضفاضة ليس لها تعريف قانوني، كالاعتداء على قيم الأسرة المصرية وتقاليد المجتمع، طالما لم يثبت تورطهم في جرائم الحض على العنف أو الكراهية، كاستثناء وحيد يقره الدستور على حق الأفراد في ممارسة حرية التعبير والإبداع”. واستهجن البيان تصرف النيابة العامة في قضية إحدى فتيات “تيك توك” والمعروفة باسم منة عبد العزيز، والتي حولتها النيابة من ضحية اغتصاب إلى متهمة بـ “التحريض على الفسق والفجور”.

المتهمة الضحية

يشار إلى أن المذكورة ظهرت في فيديو ادعت فيه تعرضها لجريمة اغتصاب مصورة وابتزازها بنشر الفيديو، وعلى الرغم من ثبوت الواقعة أمرت النيابة العامة بحبس الضحية. ثم أصدرت بياناً ألقت فيه اللوم على المغتصبة بسبب نشرها فيديوهات رأت النيابة أنها تتضمن تحريضاً على الفجور. وعلى الرغم من قرار النيابة استبدال الحبس الاحتياطي لـ”الضحية” التي يشار إليها بـ”المتهمة”، بالإيداع في دار للرعاية، إلا أن النيابة لم تسقط عنها الاتهامات. كما أشارت المنظمات الحقوقية في بيانها إلى أن سبب هذا الإيداع – كما وضحته النيابة العامة – ليس “وحشية ما تعرضت له المذكورة من عنف”، بل “لأن سلوكها في حاجة إلى التقويم”.

ومن التقويم إلى التقييم، ودراسة صدرت عن معهد المرأة في جامعة جورج تاون الأميركية في عام 2019 وصنّفت أفضل وأسوأ عشر دول من حيث تمتع النساء بالحقوق والمكانة المطلوبة. وفي الوقت الذي خلت قائمة أفضل عشر دول لمعيشة النساء من أية دولة عربية، حوت القائمة الثانية خمس دول عربية هي: السودان وليبيا والعراق وسوريا واليمن. وعلى الرغم من أن الدراسة ربطت بين تدنّي وضع النساء ووجود صراعات واقتتالات في الدول، إلا أن واقع الحال العربي يشير إلى أن معاناة المرأة لا تقتصر على أماكن الصراع المسلح، بل تمتد لتشمل، بل ربما تهيمن في أماكن الصراع الثقافي والشد والجذب بين محاولات جذب الإناث إلى الهاوية والإبقاء عليهنّ في القاع بحجج مختلفة، وبين محاولات شدهنّ إلى أعلى والإبقاء عليهنّ في خانة الكائنات البشرية الكاملة الأهلية.

أهلية المرأة العربية

أهلية المرأة العربية لم تصل إلى مرحلة الاعتراف بعد. غالبية الدراسات الاستقصائية والإحصائية تشير إلى أن الدول العربية ما زالت “محافظة” إلى حد كبير جداً في ما يختص بحقوق الإناث وأدوراهنّ في المجتمع، لا سيما “أنهنّ لسن كاملات الأهلية” كما يتردد ليلاً ونهاراً في الأروقة العربية. دراسة أجرها “الباروميتر العربي” (شبكة بحثية تعمل بالتعاون مع جامعات عدة أبرزها جامعة برينستون الأميركية) تحت عنوان “آراء المواطنين العرب حول حقوق المرأة وأدوارها في المجتمع” وأعلنت نتائجها في فبراير (شباط) الماضي أشارت إلى تنامي تأييد المواطن العربي لحقوق المرأة في التعليم والعمل والمناصب السياسية، لكن ما زالت الغالبية بعيدة من اعتناق مبدأ المساواة. فمثلاً ترى الغالبية أن القرار الأخير في الأمور الأسرية يجب أن يبقى للزوج لا الزوجة، وأن سفر المرأة وحدها أمر غير مطروح، والمساواة في الميراث أمر غير مقبول.

التقرير العالمي السنوي عن “الفجوة بين الجنسين” الصادر هذا العام عن المنتدى الاقتصادي العالمي، يشير إلى أن الفجوة الزمنية بين الجنسين في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تقدر بنحو 140 عاماً بناء على المعطيات الحالية…

Independent عربية يمكن قراءة المقال الكامل على موقع