الأحزاب السياسية العربية وتحدي الثقة المزدوج

من أبرز مظاهر الحياة السياسية العربية الحديثة تدني الثقة في الفاعلين السياسيين الأهليين. في حين ما يزال المواطن العربي يمتلك ثقة عالية نسبياً في الأجهزة الأمنية والقوات المسلحة والسلك القضائي، تنخفض نسبة الثقة في الحكومة المركزية والحكومة المحلية، لتصل أدنى مراتبها في الحركات والأحزاب الإسلامية والمؤسسات التشريعية والأحزاب السياسية.

تشير بيانات الدورة الخامسة من الباروميتر العربي إلى نسب ثقة منخفضة جداً في الأحزاب السياسية. فبخلاف اليمن (٣١ بالمئة)، تحوز الأحزاب على نسب ثقة تتراوح ما بين ال٤ بالمئة وال٢١ بالمئة. في مصر، تشكل نسبة الثقة ٢١ بالمئة، وفي لبنان ١٩ بالمئة، وفي المغرب ١٨ بالمئة، وفي السودان ١٥ بالمئة، وفي فلسطين ١٣ بالمئة، لتنخفض دون العشرة بالمئة في تونس (٩ بالمئة)، والأردن (٧ بالمئة) والعراق (٦ بالمئة)، وليبيا (٤ بالمئة). هذه النسب هي الأدنى على الإطلاق من بين جميع المؤسسات التي تم قياس منسوب الثقة بها، وهي منخفضة بغض النظر عن الحرية السياسية ودور الأحزاب في الحكم أو في المساهمة باتخاذ القرار السياسي في البلاد.

ولم تسلم الحركات والأحزاب الإسلامية من انعدام الثقة الشعبية وإن كانت نسب الثقة بها أعلى بقليل، فحازت الحركة الإسلامية الرئيسية أو الحزب الإسلامي الرئيسي على نسب ثقة ٣٨ بالمئة في اليمن، و٢٥ بالمئة في المغرب، و٢٤ بالمئة في السودان، و٢٢ بالمئة في فلسطين، و١٧ بالمئة في مصر، و١٦ بالمئة في تونس و١٤ بالمئة في الأردن، و١٢ بالمئة في العراق، و٩ بالمئة في ليبيا.

قد لا تكون هذه الأرقام مفاجئة لمتابع ومتابعة الشأن العام في العالم العربي، ولكن من المفيد مقارنتها مع نسب الثقة في القوات المسلحة. حاز الجيش على نسبة ثقة ٩٥ بالمئة في الأردن و٩٠ بالمئة في تونس و٨٧ بالمئة في لبنان و٨٤ بالمئة في مصر والعراق و٧٨ بالمئة في المغرب و٧٠ بالمئة في اليمن و٦٤ بالمئة في السودان و٥٩ بالمئة في ليبيا و٣٧ بالمئة في فلسطين. باستثناء فلسطين، هذه النسب هي الأعلى على الإطلاق من بين جميع المؤسسات التي تم قياس منسوب الثقة بها.

فما الذي يفسر تدني الثقة في الأحزاب، وانعدام شعبيتها بالمقارنة مع المؤسسات السياسية والأمنية الأخرى؟ قد تتعدد الفرضيات في هذا الشأن، ومنها مثلاً أن الشعوب العربية تشعر بحرية أكبر بانتقاد الأحزاب السياسية والبرلمانات وملامتها على تردي الأحوال السياسية في البلاد. ومنها أيضاً أن المؤسسات الأمنية تتحلى بتنظيم ونزاهة وانضباط مفقود لدى معظم الأحزاب السياسية العربية. وأخيراً أن الأحزاب السياسية فاقدة قرارها وقدرتها على التأثير على المآلات السياسية، وأنها أضحت نوادي أيديولوجية تتردد حتى في المشاركة في الحركات الاعتراضية العامة على ما يدل تصرف معظم الأحزاب في حراكات الربيع العربي.

التفسير الذي أرجحه استناداً لعملي البحثي عن الحالة المغربية يأخذ منظور تاريخي ويمزج بعض مما ورد أعلاه. الأحزاب السياسية العربية مؤسسات وساطة مجتمعية واقعة ما بين المؤسسات الحاكمة والمجتمعات. تشارك الأحزاب في النظام وإن لم تشترك مباشرة في الحكم (باستثناء الحالات التونسية واللبنانية والعراقية). هي جزء من البنية السياسية لأي مجتمع عربي، وأسهل طرف في هذه البنية للوصول إليه ونقده بحرية في المجال العام. في النظم السلطوية الغير حزبية (أي لا يوجد بها حزب حاكم)، والتي تشمل معظم البلدان العربية اليوم، تتشكل الأحزاب وتتطور لطرح الأفكار والمشاريع الأيديولوجية والتأثير في الخطاب العام، وتعلم جيداً أنها قد تكون بعيدة عن الحكم (الحالة التونسية استثناء منذ ال٢٠١١). في محطات تاريخية معينة، حازت هذه الأحزاب على قدرات تنظيمية وتعبوية لا يمكن الاستهانة بها. كما وعانت هذه الأحزاب من قمع الأنظمة السلطوية المر، وأدت أثمنة عالية لمواجهتها المباشرة للبنى القمعية والسلطوية (وبعضها ما يزال).  مع الوقت، استطاعت الأنظمة احتواء هذه الأحزاب إما عبر إشراكها في الحكم بصورة محدودة أو قمعها بصورة شرسة. الأحزاب التي حافظت على راهنتيها، وهي قليلة جداً، هي التي أخذت مسافة دقيقة من الحكم وحافظت على قواعدها الشعبية وانصاعت لخطابها العام ولم تسعى وراء مكاسب آنية ضيقة.

استطاعت هذه الأحزاب أن تمتص الضغوطات الشعبية على الأنظمة لفترة طويلة، مما قد يفسر تدني الثقة الذي تدل عليه النتائج أعلاه. المعضلة الآن، وكما تحاجج انتصار الفقير، هو أنه بتقويضها المؤسسات الوسيطة، تفتح أنظمة الحكم العربية المجال أمام مواجهات مفتوحة مباشرة مع مجتمعاتها – مما رأيناه في معظم البلدان العربية من خلال موجات الاحتجاج التي بدأت في  ٢٠١١ ولم تنته بعد. وترى الأحزاب نفسها خاسرة لدى طرفي المواجهة: فلا هي ظفرت في الحكم أو السلطة، ولا هي كسبت ثقة واحترام أبناء شعبها.

تواجه الأحزاب تحدٍ مزدوج. الأول هو الاستدامة والبقاء والتعايش مع أنظمة حكم لا تخفي ازدرائها التاريخي لأي فعل سياسي أهلي ممأسس. الثاني، وهو برأيي الأصعب والأهم، هو تبرير هذه الاستدامة للمجتمعات العربية، وإقناعها بجدوى الفعل السياسي الأهلي الممأسس والمتدرج. هذا تحد صعب، قد يفوق قدرات الأحزاب العربية. ولكن التاريخ الحديث يعلمنا أن كلفة نضال الأحزاب السياسية في الوطن العربي قد تكون مبررة، خصوصاً ان استطاعت الأحزاب المساهمة بتفادي أعنف أوجه المواجهات المفتوحة ما بين الأنظمة والمجتمعات. وإلا وقعت المجتمعات في أفواه المؤسسات الأمنية للأنظمة، والتي تحوز ثقة المواطن العربي وإن لم تكن جديرة بها.