الرأي العربي: صورة العالم العربي من خلال استطلاعات الرأي

         شهد العالم العربي خلال السنوات الأخيرة إنجاز عدد من استطلاعات الرأي (مثل “المؤشر العربي” و”الباروميتر العربي” و”أصداء بيرلسون” ..)، التي حاولت جهدها رصد آراء المواطنين في هذا العالم، بشأن أبرز القضايا التي تشغلهم. وهو ما أفادنا بنتائج عدة، إن لم تكن كافية -ربما- لإبراز آراء هؤلاء بكل دقة، فقد نجحت على الأقل في إعطائنا صورة مقربة نسبيا عن العالم العربي من خلال النتائج التي توصلت إليها.

       هذا ما توقفت عنده في كتابي “الرأي العربي: صورة العالم العربي من خلال استطلاعات الرأي” (الصادر عن دار النشر : “أي-كتب”، لندن، 2018). وهو الكتاب الذي حاولت فيه، بعد طرح إشكالية استطلاعات الرأي عموما وفي العالم العربي خاصة، جمع أبرز النتائج المذكورة وتقديمها ومناقشتها. وإذ أحيل القارئ إلى تفاصيلها في الكتاب، أكتفي بالإشارة هنا إلى مسألتين: صورة العالم العربي من خلال الاستطلاعات المعنية، ومنهجية هذه الاستطلاعات ومقترحاتي الخاصة بشأنها.

١) صورة العالم العربي

      أفادتنا النتائج المحصل عنها، كما ذكر، ب. “صورة مركبة” عن العالم العربي. قلنا مركبة لأن العالم العربي، مثل أي عالم آخر (أوروبي، أمريكي، أميركي لاتيني، إفريقي..) مجموعة دول وثقافات، من الصعب اختزالها إلى صورة مبسطة أو أحادية الجانب. ولا نظن أن هذا هدف أي استطلاع رزين للرأي، كيفما كانت أهميته، والذي أقصى ما يهدف إليه، أو بالأحرى يجب أن يهدف إليه، هو إعطاءنا صورة معينة عن واقع ما في لحظة تاريخية معينة.

     وهي الصورة التي يمكن تقسيمها عموما إلى صورتين فرعيتين هما: صورة العالم العربي، وصورة المواطنين فيه.

  • فيما يخص صورة العالم العربي، فقد تبين عموما ما يلي:

* أن هذه الآراء تبدو متوسطة، تتأرجح بين الإيجابية والسلبية، فيما يتعلق بالأوضاع القائمة (الوضع الاقتصادي والوضع الأسري  والأجور وما شابه) في جل الدول العربية المعنية، مع تفاوت واضح  لصالح دول الخليج، بالنظر لوفرتها المالية.

* أن أبرز المؤسسات التي تشتغل بشكل جيد أو مقبول في العالم العربي، حسب الآراء المعبر عنها، هي المؤسسات الأمنية (الجيش، الشرطة، المخابرات)، أما المؤسسات الأخرى فهي متوسطة الاشتغال (الحكومة البرلمان، القضاء) أو ضعيفة بشدة (الأحزاب السياسية).

* أنه فيما يتعلق بالأداء فقد أوضحت الآراء أنه باستثناء دول الخليج فإن الأداء الاقتصادي الحكومي سلبي عموما والفساد يحكم دواليبه في الغالب. أما الأداء البرلماني فهو نسبي، إذ لا يمثل البرلمان كل أطراف المجتمع وتشريعه للحريات أو مراقبته للإنفاق العام تظل محدودة.

* أن العالم العربي يشكل عموما، لدى المستجوبين، “أمة واحدة وإن اختلفت سمات شعوبها أو ثقافاتها”، وان قضيته الأساس كانت ومازالت هي فلسطين، ولامجال للاعتراف بإسرائيل، وأن أكثر الدول التي تهدد أمنه الداخلي هي أمريكا وإسرائيل.

ب- فيما يخص المواطنين، فهم وراء الأفكار المذكورة بشأن العالم العربي، لكن من المميزات التي تخصهم نجد :

* الاهتمام العالي -من جهة- بالسياسة، عبر مختلف وسائل الإعلام والتواصل (ومنها مواقع التواصل الاجتماعي). لكن العزوف عنها -من جهة أخرى- عبر عدم الثقة في الأحزاب السياسية وعدم الانخراط في هيآت المجتمع المدني من جمعيات ورابطات مدنية أو سياسية.

* أن هذا العزوف لم يمنع، على المستوى النظري،  من تفضيل الديموقراطية، كنظام سياسي ملائم، على غيرها من النظم. وبالتالي رفض الأفكار السلبية التي تدعي أن الديموقراطية غير جيدة للاقتصاد أو أنها تثير الفوضى وغير ملائمة للمجتمع العربي.

* أن نسبة التدين تظل مرتفعة، كما هو متوقع في أي بلد إسلامي،  لكن هناك عموما رفض لدى المواطنين لخلط الدين بالسياسة مثل: استغلالها من طرف الحكومة لدعم سياستها أو المرشحين لجذب الناخبين أو رجال الدين  للتأثير على الانتخابات.

* أن النظام السياسي الملائم بالتالي هو “النظام المتوازن” الذي لا يطغى فيه تيار إسلامي على آخر علماني. وأنه إذا كان هناك تأييد في هذا الصدد للثورات والحركات الاحتجاجية الشعبية التي وقعت، فهناك شبه إجماع على رفض تهديد استقرار الدول المعنية بها.

٢) منهجية استطلاعات الرأي

      ليس غرضنا هنا الخوض في تقنيات استطلاعات الرأي التي نتركها لأهلها، لكن تكميلا لما أشرنا إليه في مقدمة كتابنا وفي ضوء ما أفادتنا به النتائج المذكورة، نقدم هنا بعض الملاحظات التي، مشفوعة بما نراه من مقترحات في هذا الصدد.

  • الملاحظات، أبرزها ما يلي:

* تطور حجم استطلاعات الرأي، حيث انتقل “المؤشر العربي”، مثلا، من استطلاع محدود نسبيا سنة 2011، في عدد أسئلته وعدد صفحات تقريره ( 90 صفحة)، إلى استطلاع أكثر شمولية سنة 2016، والذي توسع في أسئلته وعدد صفحات تقريره (إلى حد 404 صفحة). ما يفيد المجهود الذي تم بذله لمتابعة الرأي العام العربي خلال هذه السنوات.

* الثبات النسبي للمحاور موضوع كل تقرير (الأوضاع العامة، الثورات العربية، تقييم الديموقراطية، الثقة في المؤسسات، دور الدين في الحياة المدنية والسياسية، المحيط العربي)، وهي نفسها التي نجدها تقريبا  في تقارير “الباروميتر العربي”، مع توسيعها التدريجي. وهذا إيجابي، يتيح نوعا من الثبات، يساعد على متابعة التطور والمقارنة.

* طرح مجموعة من الأسئلة على المستجوبين ذات أهمية دون شك فيما يتعلق بأوضاعهم الداخلية والخارجية. لكن، “المفاهيم” التي تتضمن هذه الأسئلة ليست دائماً واضحة كما تبين (مثل الديموقراطية والأمن ومصالح المواطنين والحريات…)، ما أثر على النتائج أحيانا وجعلها غير دقيقة، بل متناقضة مع الواقع.

* تجنب التطرق لبعض الموضوعات أو لمسها بصورة غير مباشرة مثل الديموقراطية، حيث لم نفهم من عدد من الاستطلاعات المعبر عنها مثلا ما رأي المواطنين في نظم الحكم التي يعيشون فيها (إلى أي حد هي ديموقراطية أم لا؟) بقدر ما فهمنا رأيهم في الديموقراطية، هكذا بشكل مجرد، والنظام الملائم الذي يرغبون فيه.

* ضعف الانتشار بالنسبة لأغلب استطلاعات الرأي، إذ ربما باستثناء “المؤشر العربي” الذي يحظى بتغطية إعلامية واسعة، فإن عددا من استطلاعات الرأي ذات الأهمية (مثل تقارير الباروميتر العربي) لا تحظى بالمثل، ما يجعلها فائدتها عمليا محل نظر.

  • المقترحات، عديدة نكتفي منها على وجه السرعة بما يلي:

أولا– التوسع التدريجي في الأسئلة ومحاولة تغطية كل جوانب الوضع العربي في استطلاع أو تقرير واحد، مسألة لها حدود، في تقديرنا. بل ولا نرى لها جدوى على المستوى العلمي والعملي. وما نقترحه هنا هو إجراء عدة استطلاعات للرأي، محدودة الأسئلة، تتعلق كل مرة بمجال محدد مثل السياسة والاقتصاد والثقافة والدين والأسرة والقيم والأخلاق (…).

ثانيا– وفي هذا الصدد، يبدو إجراء استطلاع للرأي كل سنة (بالنسبة “للمؤشر العربي” مثلا) غير ذي معنى، لأن آراء الرأي العام لا يتغير عادة بين سنة وأخرى (إلا في حالات الاستثناء)، ولا تبدأ مؤشرات التغيير تظهر عموما إلا بعد 5 سنوات فما فوق. والمقترح هنا هو التخلي عن الاستطلاع الكامل/الشامل لصالح استطلاعات الرأي الجزئية أو المتخصصة، كما ذكر.

ثالثا– هذا ما من شأنه أن يؤدي إلى ضبط الأسئلة والتوسع فيها أكثر، مع التدقيق في المفاهيم المستعملة، إضافة إلى التطرق إلى موضوعات لم يتم التطرق إليها إلى حد الآن مثل الأسرة والإعلام والثقافة والقيم والترفيه…، وما إليه. ما سيساعدنا على الخروج من العموميات إلى الجزئيات (“الشيطان في الجزئيات” كما يقال)، وبالتالي على فهم أفضل للرأي العام العربي.

رابعا– التنسيق بين مؤسسات استطلاع الرأي، إذ لا يعقل مثلا أن نجد الأسئلة ذاتها (وبالحرف الواحد أحيانا) تتكرر بين استطلاع وآخر، كما لمسناه في مقارنتنا لاستطلاعي “المؤشر العربي” و”الباروميتر العربي”. كما ليس من المعقول أن نجد أحيانا فروقا شاسعة بين النتائج، تشم منها رائحة التحيز أحيانا، كما في استطلاع بيرلسون عن الشباب العربي 2017-2018.

خامسا– الإعلام والتواصل ما أمكن بشأن استطلاعات الرأي المنجزة، لاسيما وأن  التكنولوجيات الجديدة للاتصال أضحت تسهل ذلك (المواقع الإلكترونية).

     تبقى هذه مجرد ملاحظات ومقترحات ذاتية، لا تمنعنا من تقديم الشكر إلى المشرفين أو المساهمين، كل من موقعه واختصاصه،  في الاستطلاعات المذكورة، على ما بذلوه، وما نأمل أن يواصلوه، من جهود، لقياس الرأي العام العربي ومتابعة تحولاته.


يمكنكم التواصل مع الباحث محمد بهضوض عبر البريد الإلكتروني mbahdod@gmail.com ، كما يمكنكم قراءة مدخل كتابه عبر الرابط التالي.