آراء المواطنين حيال أوجاع مصر الاقتصادية

أثارت التوصيات الأخيرة التي صدرت عن المعهد القومي للتغذية في مصر والتي اقترح المعهد بموجبها النظر في أكل “أرجل الفراخ/الدجاج” كأحد بدائل البروتين الأقل عبئا على ميزانيات المواطنين حفيظة النقاد والمواطنين بشكل عام في كانون الأول/ديسمبر ٢٠٢٢. أعقبت هذه المحاولة لمساعدة المواطنين على إيجاد متنفس من الظروف الاقتصادية الخانقة موجة من الانتقادات الحادة والسخرية. سلط هذا التصريح، وإن قُدِّمَ بحسن نية، الضوء على محنة مصر العصيبة.

يشير الاستبيان الذي أجراه الباروميتر العربي في مصر في كانون الثاني/يناير ٢٠٢٢، أي قبل أحد عشر شهرا من منشور الفيسبوك المشين الذي يقترح على المواطنين بدائل غذائية إلى أن المواطنين المصريين كانوا يشعرون لتوهم بأعباء الظروف الاقتصادية المتدهورة قبل أن يُقال لهم إن عليهم أن يهيّئوا أنفسهم للأيام العسيرة الآتية. فقد أفادت غالبية كبيرة (٦٨بالمئة) منهم إن غذاءهم ينفذ غالبا أو أحيانا قبل أن يتوفر لديهم المال لشراء المزيد، الأمر الذي يجعلهم من الذين يعانون من انعدام الأمن الغذائي حسب تعريف منظمة الأغذية والزراعة.   مقارنة بالبلدان الأخرى التي استُطْلِعت آراء مواطنيها، كان عدد من لديهم مُدَّخرات المواطنين أو القادرين على سد نفقاتهم هو الأقل. ويسود بين المواطنين انطباع بأن عدم المساواة آخذ في الازدياد؛ وفي حين يريد الكثير من المصريين أن تكبح الحكومة جماح التضخم وتزيد الإعانات، من غير المتوقع أن يُلَبّى أي من المطلبين في المستقبل القريب.

أعقبت نتائج الباروميتر العربي أزمة كوفيد-١٩ التي كان التضخّم أسوأ نتائجها كما أفاد ٤٠ بالمئة من المصريين، وخسارة دخل الأسرة وفقا لما عبر عنه أكثر من ربع الذين استُطْلِعت أراءهم (٢٦بالمئة) من المواطنين. ويجدر التذكير أن الاستبيان سبق غزو روسيا لأوكرانيا في شباط/فبراير ٢٠٢٢، وهما البلدان اللذان كانت مصر تستورد منهما ٨٠ بالمئة من وارداتها من الحبوب. ومع استمرار الخلل الذي لحق بسلاسل الإمداد وارتفاع الأسعار، تكثر الدلائل المؤيدة لافتراض أن نسبة المصريين الذين يعانون من انعدام الأمن الغذائي اليوم عالية بنفس القدر الذي كانت عليه آنذاك، وأن للقلق الذي يشعرون به إزاء التضخم والدخل ما يبرره.

ارتفع معدل التضخم في كانون الأول/ديسمبر ٢٠٢٢ إلى ٢١،٩ بالمئة مقارنة بمعدله الذي بلغ م ٦،٥بالمئة قبل عام فسجل بذلك أعلى مستوى للتضخم شهدته مصر منذ عام ٢٠١٧. وأثناء ذلك، انخفضت قيمة الجنيه المصري إلى أدنى مستوياته تاريخيا مقابل الدولار. وارتفعت أسعار الأغذية ارتفاعا هائلا بنسبة ٣١ بالمئة كمعدل وسطي مقارنة بعام ٢٠٢١. وكان التذبذب في أسعار مواد بعينها صارخا. فقد ارتفع ثمن كيلو غرام الدجاج إلى ٧٥ جنيه مصري بعد أن كان ٣٥ جنيه قبل عام واحد (الدولار الأمريكي = ٣٠ جنيه مصري). وأصبح البيض ترفا. كما ارتفعت أيضا أسعار اللحم والأرز والسكر والزيت.

موجز القول إنه بات من الأصعب شراء المواد الغذائية خاصة أنه لم تكن هناك أصلا شبكات سلامة تُذكر. توحي النتائج التي خلص إليها الباروميتر العربي أن ٧بالمئة من المصريين فقط يفيدون أن ليهم مُدّخرات ويكاد لا يكفي دخل الأسرة لسد الاحتياجات: ٢ بالمئة من المواطنين قالوا إنهم يستطيعون سد نفقاتهم وادّخار بعض المال، بينما تشير أقلية أكبر بقليل (١٨ بالمئة) إلى أنها قادرة على الوفاء باحتياجاتها دون صعوبة تُذْكَر. تواجه الغالبية المتبقية (٧٩٪) صعوبات كبيرة في تغطية الحاجيات الأساسية أو ببساطة لا تستطيع القيام بذلك. في هذه المقاييس، تحتل مصر المرتبة الأخيرة بين البلدان العربية التي أجريت فيها استطلاعات للرأي.

حين يصبح من الصعب جدا الحصول على إحدى الاحتياجات الضرورية كالغذاء مثلا، نلمس بوادر فروقات طبقية كبيرة بين السكان: القدرة على شراء الطعام وليس توفر الغذاء هي سبب رئيسي لانعدام الأمن الغذائي. وليست مصر استثناء لهذه القاعدة. فعلى الصعيد الإقليمي، تحتل مصر المرتبة الثانية في انطباعات المواطنين عن غياب المساواة الاقتصادية-الاجتماعية. إذ يرى ٨٧ بالمئة من المواطنين المصريين – وهذه نسبة عالية جدا -إشكالية الفجوة بين الأغنياء والفقراء، في حين يعتبر ٨٢ بالمئة منهم أن هذه الفجوة اتسعت خلال العام الماضي وحده.

ما يريد المصريون من حكومتهم أن تفعله إزاء هذا الوضع

تنقسم آراء المصريين مناصفة حيال مسألة أعلى أولويات الإنفاق الحكومي في السنة المقبلة. يرى ٣٤ بالمئة منهم أن على الحكومة أن تعطي الأولوية لنظام الرعاية الصحية، ويعتبر٣١ بالمئة منهم أن الإعانات أجدر بالاهتمام، في حين يختار ٣٠ بالمئة النظام التعليمي. لكن يرجح أن يرغب من يعانون من انعدام الأمن الغذائي (الذين يشكلون نسبة ٣٣ بالمئة من السكان) بالمقارنة مع أقرانهم الذين لا يعانون من انعدام الأمن الغذائي (ونسبتهم ٢٧ بالمئة من السكان) بتخصيص الأموال للإعانات.

وبالمثل، تنقسم أيضا آراء المواطنين حول الخطوات التي يتوجب على الحكومة اتخاذها لتحسين الأوضاع الاقتصادية: يريد ٣٧ بالمئة منهم أن تركز الحكومة على خلق فرص العمل، و٣٦ منهم على الحد من التضخم. وبينما تتساوى نسبة الراغبين بين من يعانون ومن لا يعانون من انعدام الأمن الغذائي في أن تركز الحكومة على خلق فرص العمل الجديدة، يرجح أن يفضل من نفذ الطعام لديهم غالبا أو أحيانا (٣٩ بالمئة) بالمقارنة مع لم ينفذ الطعام لديهم (٢٩ بالمئة) أن تركز الحكومة على ­­­الحد من التضخم.

لكن قد يتعذر في الوضع الراهن الإنفاق على الإعانات والحد من التضخم. وفي حين بدأت الحكومة فعلا في بيع الخبز بأسعار مخفضة لهؤلاء الذين يشملهم نظام الإعانات الخاص بالخبز، لم يعد “العيش” (الخبز)، قوت السواد الأعظم من المصريين، ما كان عليه في الماضي. للتعامل مع العجز (في إمدادات الحبوب)، أصبح حجم رغيف الخبز اليوم نصف حجمه سابقا. وكان تخفيض قيمة الجنيه المصري مطلبا من صندوق النقد الدولي وممولي الخليج الذين وضعوا هذا التخفيض شرطا لأية قروض جديدة. ولا يقتصر الأمر على كون مديونية مصر تضاعفت خلال العقد الماضي فحسب، بل خُصصت لسداد الديون نسبة تقل بقليل فقط عن نصف ميزانية الدولة للسنة المالية ٢٢-٢٣.

والأكثر إثارة للقلق أن السقوط الحر ليس مقصورا على الجنيه المصري إذ أن لدى المصريين انطباع أن حقوقهم تتدهور هي الأخرى بشكل خطير. وبعد انقضاء قرابة عقد على إجراء الباروميتر العربي لدراسات استقصائية في مصر، تبين أن نسبة المواطنين الذين يؤمنون بأن الحق في حرية التعبير والصحافة وحرية الاحتجاج مضمون قد تراجعت لأدنى مستوياتها. وقد تبدّت هذه التغيرات في أجلى مظاهرها في المجال الأخير وهو الحق في الاحتجاج. ففي عام ٢٠١١، أفاد ٩٤ بالمئة من المصريين أن الحق في التظاهر والمشاركة في احتجاجات سلمية كان مضمونا، في حين لم تتجاوز نسبة من أفادوا بذلك ١٢ بالمئة عام  ٢٠٢٢. وبينما يعاني المواطنون العاديون من عبء الركود السياسي والاقتصادي مُجتمِعَيْن، لا يبشّر دوام هذا الحال جميع المصريين بالخير على الأمد الطويل.